«فصل الدين عن الدولة» يعني كف يد المتدينين عن السيطرة باسم الدين على أجهزة الدولة. فإذا سيطر «الكهنوت»، من أي دين كان، على الدولة السياسية، أصبحت مطية لهم يستعملونها كيفما يشاؤون دون حسيب خدمة لأنفسهم المادية «الأمارة بالسوء»، لا من أجل خدمة الله الذي لا يحتاج لخدمة أحد. الدين هو علاقة خاصة بين العبد والمعبود تعالى ولا طرف ثالث بينهما. في الإسلام، الدين كله لله لا للدولة ولا لأحد آخر. وتسييس الدين يؤدي بطريقة حتمية إلى «دولة الكهنوت»، أي النظام الثيوقراطي، وهو الدولة الدينية التي تمنح صكوك الغفران للبعض وتكفِّر البعض الآخر قبل «يوم الساعة»، حيث الحكم لله وحده. «دولة الكهنوت» هي أشنع أشكال الدكتاتورية بلا منازع. فمن عارض فسادها عومل كأنه يعارض الله تعالى، ويصبح الحكم عليه بالإعدام أمراً روتينياً. لهذا حرم القرآن إقامة «دولة الكهنوت» بالمطلق عندما حرم أي شكل من الكهنوت في الدين الإسلامي وترك الحساب بموضوع الكفر والإيمان إلى «يوم الحساب»، حيث الخالق وحده هو القاضي والمحاسب الوحيد. «عليك البلاغ وعلينا الحساب» هو البرهان القرآني على هذه الحقيقة. عندما كانت أوروبا محكومة من خلال «دولة الكهنوت»، وجدناها في بؤرة الجهل والتعاسة. المدارس العلمية العربية في الأندلس والقاهرة ودمشق وبغداد، استقبلت العديد من الأوروبيين، مما أدى إلى عصر النهضة عندهم، فتبدلت عقولهم بالعلم. أعطينا، نحن العرب المسلمين، أوروبا حضارتها ونهضتها، وذهبنا إلى النوم في غفوة تركية لمدة 500 عام، وما زلنا نعاني من غفوتنا إلى الآن. تخلى الغربيون عن الكهنوت والفساد الديني الذي لا علاقة له بالدين المسيحي القويم، واتخذوا من الدولة العربية المدنية الديمقراطية السياسية مثالاً لهم. لقد اتخذ الغرب مثال «البيعة الحرة»، أي الانتخاب المدني، أداةً للحكم، كما شرعها النبي صلى الله عليه وسلم، والذي لم يدع لأية سلطة دينية بتاتاً، كما يدعي البعض في حكمهم بعض البلدان المسلمة، وكما تدعي أيضاً «القاعدة» و«داعش» ومن لف لفهما من حركات الإسلام السياسي. لماذا، نحن العرب المسلمين، لا نقلد دولة الرسول، المدنية السياسية، كما قلدها الغرب وبلغ أوج النهضة المدنية التي كان يمثلها المسلمون منذ ألف سنة؟ لقد أخذ الغرب ديمقراطيته من نظام البيعة المدني في الإسلام الذي حرم الكهنوت تحريماً مطلقاً. وبالرغم من هذا التحريم المطلق، ما زال البعض منا يبغي إقامة دولة دينية إسلامية يسيطر عليها دكتاتور يدعي العصمة من الخطأ! ومعلوم أن تسييس الدين الإسلامي بدأه «الخوارج» الذين كفروا غيرهم واحتكروا التقوى لأنفسهم فحسب. هذا التدين التكفيري جذب ضعاف النفوس، وبالتالي تجند كل من كان «في قلبه مرض» للقتل من دون رحمة باسم أرحم الراحمين! لقد أنشأ الاستعمار الغربي في عالمنا العربي ودوله شقوقاً من التفرقة العنصرية والمذهبية، كي لا تصل يوماً هذه الدول إلى إقامة مجتمع مدني أساسه المواطنة، بغض النظر عن المذهب أو اللون أو الإثنية. وعليه، قامت دول عربية ينخرها التناحر العرقي أو المذهبي كي يُبقي الغرب على نفوذه في هذه البلدان رغم خروجه الظاهري منها، وأصبحت المصالح الغربية تحكم بوساطة «فرق تسد». وعندما أطلت «القومية العربية» برأسها، سلط عليها الغرب الاستعماري نوعاً من التدين الإسلامي الذي اتخذ هوية الدين له بدلاً من الهوية العربية المدنية التي تجمع الكل. والآن، يواجه العالمان العربي والإسلامي نكبة مزدوجة من «القاعدة» ومن «داعش» وفكرهما التكفيري الذي يبغي إقامة «دولة إسلامية» أو «خلافة» على مثال «الدولة اليهودية» التي تبغي تهويد فلسطين التاريخية كلها! وتتخذ «القاعدة» و«داعش» الجمهورية الإسلامية الإيرانية و«ولاية الفقيه المعصوم من الخطأ» برهاناً عملياً مقابلاً يؤيد مبدأ تدينهم الذي لا يمت للإسلام بصلة. إن تسييس الدين الإسلامي يقود حتماً إلى دولة الكهنوت، علماً بأن الكهنوت ودولتهم محرمان في الإسلام تحريماً مطلقاً. ومهما كان شكلها، دولة أو خلافة أو جمهورية إسلامية، ستكون دولة متطرفة فاشية. فليس هناك تسييس إسلامي معتدل وآخر متطرف وكلاهما تدينان من صنع أيدٍ بشرية خاطئة لم يقل بها القرآن الذي أوصى الرسول صلى الله عليه وسلم: «لست بكاهن»، «ولست بمسيطر»، «ولست بوكيل». إن ما يدعى بالحروب الدينية ما هي إلا تدينات لا تمت بعلاقة للرسالات الروحية الأصيلة، إلا بالاسم فقط، فبركها المتدينون الماديون لأجل الربح بأي طريقة ممكنة. النظام الصهيوني الاستعماري يخوض حربه التدينية مثل جحافل السوء التابعة لـ«داعش» ولـ«القاعدة». وفي هذا السياق، أصبح الشرق الأوسط ميداناً لحروب التدينات، والتي هي في آخر الأمر تدمر نفسها ومن حولها. وإذا تركت إسرائيل تسلب الأرض الفلسطينية وتوسع الاستيطان من دون توقف وردع، سيدفع العالم -آجلاً أم عاجلاً- ثمناً باهظاً لا يمكن تحمله بتاتاً. فيا أولي الألباب، ويا أصحاب القرار، هل من حل جذري ينهي كوارث الجنون الداعشي/ الصهيوني المحتل؟